لو كان لأقوال الرئيس المخلوع عمر البشير الأخيرة أمام محكمة انقلابيي يونيو (حزيران) 1989 من مزية، فهي التذكير بأن هذه المحاكمة التي بدأت منذ أكثر من عامين، لا تزال منعقدة. فأشاد بشجاعته من أعجبه تحمله مسؤولية الانقلاب كاملة في أقواله من فوق حيثيات دان فيها النظام البرلماني الذي كتب نهايته بانقلابه عليه. ورأى آخرون أنه بتحمله مسؤولية الانقلاب كان مكرهاً لا بطلاً لأنه لم يأت بغير المعروف بالضرورة عنه وعن انقلابه. وإن قال بغير هذا المعروف عنه خرج من المعنى بالكلية.
أعادت أقوال البشير في المحكمة عن الانقلاب كثيراً من الناس إلى الالتفات للمحكمة، ولو لحين بعد انصراف طويل عنها. فقد أسقم طول انعقادها، أو تطاوله، الناس في وقت تزاحمت عليهم أزمات سياسية ومعيشية وصحية أخذت بخناق بعضها أزهدتهم عن متابعة جلساتها. فذبلت حتى تلك الوقفات من أنصار النظام القديم التي كانت تجتمع أمام المحكمة للتضامن مع رموزهم المعتقلين لدى وصولهم إلى قاعة المحكمة، أو تلاشت.
ومع ذلك تتحمل المهنة القانونية في الاتهام والدفاع معاً خمول ذكر هذه المحكمة المهمة بين الناس. فلم يتصالح الدفاع بعد مع الطبيعة القضائية للمحكمة بعد أن دمغها بأنها سياسية محض من تدبير نظام، هو الحكومة الانتقالية بعد الثورة، اغتصب السلطة.
زاد الأمر سوءاً خروقها للدستور والعدالة سنأتي عليها. وقامت استراتيجية الدفاع بالنتيجة على الإضراب عن التعامل مع التهمة الموضوعية وهي قيام موكليه بالانقلاب. فتجد المتهمين تطبيقاً لهذه الاستراتيجية إما امتنعوا عن الإدلاء بأقوالهم أمام لجنة التحري، أو أرخوا لأدوارهم في دولة الإنقاذ إلى ما بعد قيام الانقلاب. فلم يكن من بد أمام العسكريين منهم بالذات من الاشتراك في دولة الإنقاذ في صلاحيات مختلفة. وبالأمر. بل أنكر أقواله من سبق منهم بها في يومية التحري ليتوافق مع استراتيجية هيئة الدفاع في مقاطعة المحكمة السياسية التي تسلطت على موكليها.
ولما لم تعد في نظر هيئة الدفاع ثمة قضية موضوعية أمام المحكمة تفرغ للتقاضي حولها تحولت الهيئة نفسها إلى تظاهرة سياسية يومية. ومتى صبرت على مشاهدة فيديوهات جلسات المحكمة طرقت أذنك بصورة راتبة عبارات القاضي في تهدئة انفعالات أفراد هيئة الدفاع أو ضبطهم، "ما في زول يتكلم"، "أقعد"، "إجلس يا أستاذ". وحين يضيق القاضي ذرعاً ينادي، "هل نحتاج إلى اتخاذ إجراءات في مواجهتكم؟".
واتخذ القاضي بالفعل إجراء بحق أحد المحامين أكثر من الوقوف والحديث بغير إذن المحكمة. وكان يصر على ألا يذكر المتحري اسم متهم، أو من اتصلوا بالانقلاب، بغير سبق ذلك بلقبهم مثل "دكتور" أو بالترحم على من سبق إلى الدار الآخرة منهم. وبالفعل رفع القاضي الجلسة لينتحي بعضوي المحكمة ويعود بقرار طرد محامي الدفاع عن الجلسة. وتلافت هيئة الدفاع فعل الطرد باعتذار جماعي للمحكمة. واعتذر محاميان في حين كفى الواحد منهم. وقبلت المحكمة الاعتذار وسمحت للمحامي الطريد أن يبقى في الجلسة. وبدا لي في أكثر من موضع في الجلسات أن ثمة شقاً في هيئة الدفاع نفسها بين من يتولون الدفاع عن منسوبي المؤتمر الوطني وبين المدافعين عن منسوبي خصمه المؤتمر الشعبي الذي انشق عليه في 1999.
وبلغ شغب هيئة الدفاع حد التظاهرة في إحدى الجلسات. وكان ما استفز الدفاع للتظاهر وصف الاتهام لهم بـ"الاستهتار" لتكتيكاتهم في تعطيل المحكمة بصور ذكرها. فوقف جماعة منهم، وفي وقت واحد، يريد كل منهم الاحتجاج للمحكمة على نبوء الكلمة والرد على الاتهام. وتعالت الأصوات لا يسمع هذا من ذاك. واستمر المشهد لنحو أربع دقائق بح خلالها صوت القاضي، "أقعد، إجلس يا أستاذ، ما في زول يتكلم، احترموا المحكمة". ولما لم تجد مناشداته فتيلاً رفع الجلسة ليجتمع بعضوي المحكمة. ولما انعقدت المحكمة ثانية قرأ القاضي هذا الإنذار لهيئة الدفاع، جاء فيه،
"درجت هيئة الدفاع على عدم الانصياع لقرارات المحكمة ولمقاطعتها كثيراً. وضبط الجلسة وإدارتها من ’شؤون‘ اختصاص المحكمة وقضاتها أو قاضيها. واحترام المحكمة هو احترام للسلطة القضائية وللأجهزة العدلية بما فيها السلطة القضائية والنيابة وحتى الاتحاد العام للمحامين السودانيين. المحكمة قادرة على ضبط الجلسة. سكوت المحكمة لا يعني ضعفها ولا يعني أنها تجهل القانون. عندها من القانون ما هو كفيل بحفظ ضبط الجلسة وإدارتها. وما تقومون به، عفواً بعض هيئة الدفاع وليس كلكم، يشكل إجراماً، ومخالفة لنص المادة 138 وقد يتجاوزه إلى تعطيل سير العدالة (وهو) جريمة كاملة يعاقب عليها بموجب القانون الجنائي لسنة 1991. أرجو ألا نضطر إلى اتخاذ مثل هذا الإجراء مستقبلاً. أرجو احترام المحكمة. المحكمة قادرة تدعو أي زول، تمنح الفرصة لأي زول. تقدم محاكمة عادلة للمتهمين. المحكمة ليست مسلطة. بل تعمل وفق القانون. أي إجراء يخل بسير المحكمة لن يسمح به. وأرجو ألا نضطر إلى اتخاذ الإجراء مستقبلاً".
أن القاضي احتمل ما لا يطاق من الدفاع. بل حل هو نفسه محل قاض سبقه اعتذر عن مواصلة رئاسة المحكمة ذاتها لظروف صحية.
أما ما أزهد الناس حقاً في سير محاكمة انقلابيي 1989، فهو إضراب القانونيين من صف الثورة عن تتبع جلساتها والتعليق على ما يدور فيها إجرائياً وموضوعياً. فسنحت بهذه المحاكمة فرصة نادرة ليشهد جيل من السودانيين مساءلة قانونية علنية لحكام خرقوا الدستور وقضوا على نظام برلماني استعاده الشعب بثورة في 1985 على ديكتاتورية نميري التي دامت 16 عاماً. والمساءلة عقدة الديمقراطية كما لا يخفى.
كثيراً ما نسبت الصفوة تفلت الديمقراطية بين أيدينا ثلاث مرات منذ استقلالنا في 1965 إلى خلونا من الثقافة الديمقراطية. وهذا قول مرسل. فلم يولد أي شعب في بلد ديمقراطي في يومنا بمعلقة الديمقراطية في فمه. فثقافة الديمقراطية ككل ثقافة تترعرع في الناس. فهي ثمرة معارف وخبرات في محاربة نظم الاستبداد. ومن هذه الخبرات إنهاء نظام ديكتاتوري كحالنا وتحويل الخبرة من محاكمة رموزه إلى ثقافة تتسرب إلى عقول الناس وأفئدتهم. وهي الثقافة التي تطعمهم بالمضاد الحيوي من دون نزوات محبي السلطة بليل.
ومع تحول هيئة الدفاع بالقضية إلى تظاهرة سياسية كما رأينا إلا أنها أثارت مع ذلك مسائل استحقت أن يقف عندها قانونيو الثورة للإدلاء برأي فيها يغذي الثقافة الديمقراطية في وسط الناس. فأكبر حجج الدفاع عن تسييس المحاكمة هي أن النائب العام الذي كون لجنة التحقيق كان قد تقدم قبل توليه النيابة العامة ببلاغ مع آخرين ضد موكليهم بتهمة الانقلاب نفسها. وقالوا إن هذا يقدح في عدالة القضية. كما اعترض الدفاع على قاض بالمحكمة كان مسهماً في الثورة على نظامهم.
ومن جهة موضوعية حاجوا بأن التهمة بالانقلاب سقطت بالتقادم بعد مرور 30 عاماً عليها. وزادوا أن مما يطعن في التهمة أيضاً أن سائر الأحزاب السياسة شاركت بصورة أو أخرى لاحقاً في نظامهم الانقلابي. فلو كان الانقلاب جريمة فهو باشتراك هذه الأحزاب فيه جريمة مستمرة.
وحجة الجريمة المستمرة طالما شارك فيها من لم يرتكبها أول مرة قريبة من حجة لحسن الترابي في 1965. ففي معرض إدانته لانقلابيي 1958 مع رفضه محاكمته قال إنه، متى أردنا تلك المحاكمة، اضطررنا إلى محاكمة الجيش كله وأحزاب كبيرة أيدت الانقلاب. وهذه الحجة التي تغرق الخاص في العام مما نسميه في السودان "إضاعة الأثر في الماء".
وليس في مطاعن الدفاع أعلاه مما يصعب الرد عليه بالطبع. فتصادف مثلاً أن ذاع مفهوم "التنحي" (recuse) في الوقت ذاته الذي كان دفاع انقلابيي 89 يثير حزازة النائب العام السياسي على موكليه. ففي تلك الأيام كان جيف سيشن، المدعي العام الأميركي، امتنع عن الإشراف على التحقيق في علاقة حملة الرئيس ترمب بالروس لأنه كان اتصل بهم هو نفسه خلال الحملة الانتخابية.
جيل الستينيات كيف افتتن بمصطلح القانون في محاكمة مذاعة لانقلابيين فشلوا في انقلابهم عام 1959. فسمع الجيل للمرة الأولى بـ"البينة الظرفية" وتعريفها مثلاً. كما عرفوا عن دهاقنة القانون مثل الهندي راتنلال الذي كان اسمه يدور على ألسنة الحقوقيين في المحكمة. وكان ذلك سعة في العلم.
هذه محاكمة طالت واستطالت. وكبر في أعوامها الأربعة متهمون كبراً لحقتهم به أدواء الشيخوخة حتى لتنقبض النفس لرؤيتهم على وهن ظاهر في الترتيبات الخاصة التي وفرتها المحكمة لمواصلة محاكمتهم. وطالت المحكمة طولاً أسقم حتى أسر المتهمين من المطالبة بتسريعها. وكانت انتظرت أن تنطوي صفحتها على أي حال لتعرف رأسها من قعرها. وكان لجائحة كورونا بالطبع دور في تطويل انعقاد المحكمة حتى طلب الدفاع مرة تأجيل انعقادها لشهرين كاملين تحرزاً.
ولكن تبقى مسؤولية هيئة الدفاع عن هذا التطويل هي الأعظم. فالبادي من أداء أفرادها في المحكمة أنهم، بعد تفريغهم لقضية موكليهم من موضوعها بصرفها كدسيسة سياسية، تواثقوا على الانتصار لموكليهم من رموز حركتهم السياسية بإنهاك المحكمة وجرجرتها والتهوين من شأنها. وربما غلبت عليهم السياسة حتى نسوا أن أكثر موكليهم في شرخ الشيخوخة وقد لا يحتملون تكتيكاتهم لإنهاك المحكمة صعوداً لأكثر من هذا. فالدفاع نفسه تقدم في جلسة ما بطلب شطب القضية ضد أحد موكليه لأنه لم يعد صالحاً للمثول أمام المحكمة، لا بد لهيئة الدفاع من سكة لتسريع هذه المحاكمة التي طالت لمصلحة موكليهم كما ينبغي.
اندبدنت عربية
المصدر: التاكا نيوز